بقلم.الأستاذ خالد البغدادي.
الفن هو اكثر اعمال الوعي الانساني رقيا وتميزا هذا ما اكده الفيلسوف شوبنهور في كتابه «العالم كارادة وفكرة» فمن خلال الفن يدرك العقل ذاته ويستطيع الفنان ان يقوم بتوصيل افكاره الى الآخرين ويقوم بتحريرنا من التصورات العادية والمألوفة عن العالم حيث يجمع في مفارقة لافتة بين الحسي المحدود والكلي اللامحدود وفي هذه الوحدة التي تجمع بين النقيضين تتمثل قوة الرغبة وقوة الاشباع الخاصة بالفن‚ وما يميز الانسان هو ممارسته لانشطة روحية عميقة مرتبطة بحاجته الجمالية وقد كشفت ابداعات الانسان للصور منذ ما قبل التاريخ عن الابعاد الفنية والطاقات الروحية للنشاط الانساني وبفضل الفن استطاع ان يسمو الى المستوى الاكثر انسانية‚ وفي هذا السياق جاء معرض الفنان سلمان المالك المقام حاليا في غاليري بيسان تحت عنوان «تحولات اللون‚‚ انتباهة الكائن» والذي يقدم فيه خلاصة تجربته الجمالية والفكرية والانسانية وسوف نحاول تفكيك ابعاده لمعرفة الى اي مدى ذهبت به تحولات اللون وهل حقا انتبه الكائن‚‚؟!
ما قبل التحولات
(‚‚ الفنان يصور بعقله ‚‚ لا بيديه‚‚) مايكل أنجلو
والمتأمل في لوحات المالك سيلاحظ ان عقله يسكن يديه لكن يديه لا تسكنان عقله بمعنى ان عقله هو الذي يقوده ويتحكم في خياراته ويحدد متى وأين يقدم اعماله الفنية ولعل هذا ما يفسر تلك المفارقة التي اثارت دهشة الكثيرين عندما زاروا المعرض وهي كيف ان فنانا لديه مثل هذه الطاقة والفيض الفني القادر على ادهاشنا واثارة مشاعرنا لم يقدم غير ثلاثة معارض شخصية فقط طوال تاريخه الفني الذي يمتد الى ربع قرن‚‚!
في حين ان بعض ابناء جيله قد يقدمون ثلاثة معارض في السنة الواحدة في بعض الاحيان لكن ــ لان عقله هو الذي يقوده ــ فهو يعلم ان المهم هو «كيف» ونوع ما تقدمه وليس «كمه» وعدده وان القيمة الابقى هي الاثر الفني وليست ارقام المبيعات!!
لكن المفارقة الاخرى والتي كانت اكثر اثارة لعلامات التعجب كامنة في الفنان ذاته فهو رسام ومصور ومصمم غرافيكي ورسام كاريكاتير ومصمم لعلامات وشعارات ولديه اهتمامات وميول مسرحية فضلا عن المهام الادارية التي يمارسها في اكثر من موقع فكيف يجد وقتا لممارسة كل هذا‚‚؟ وكيف يستطيع ان ينتقل من حالة الى اخرى دون ان يفقد السيطرة‚
ان مثل هذا التنوع في الاهتمامات لو كان عند فنان آخر ربما اصابت روحه بالاضطراب لكنها عند المالك قد اضافت الى روحه نوعا من الخصوبة!! فعندما يكون الفنان مسيطرا على ادواته وقدراته ويعي دوره الفني والانساني ويعلم اين يقف والى اين يتجه‚ ليستطيع ان يكتشف الطاقات الكامنة لديه ويطلق مارد الفن من داخله‚
ورغم ان الرسم يعتمد على عنصر الخط في بنائه بينما يعتمد التصوير على المساحة والبقعة اللونية الا انه استطاع ان يحدث بينهما نوعا من التمازج والهارموني فهو عندما يرسم الكاريكاتير يتذكر انه مصور حتى يشعر بنوع من التميز وعندما يمارس فنه لا يستطيع ان ينسى انه رسام كاريكاتير لذلك جاءت لوحاته التصويرية مليئة بالتأثيرات الخطية والحركية مما اضاف لها نوعا من الحياة والحيوية كما ان رسومه الكاريكاتورية اصبحت تتمتع بالمساحة اللونية وأسس تكوين اللوحة التصويرية مما جعله متقدما خطوة عن اقرانه‚
اللون‚‚ تأويل اللامرئي
(‚‚ فكر دائما في اللون‚‚ واستعن دائما بخيالك‚‚)
لا يوجد افضل من تلك العبارة التي قالها فنان اللون ماتيس للتأكيد على اهمية اللون في العمل الفني وهو اول ما تلحظه العين في معرض المالك فاللون لديه ليس مجرد وسيط لوصف الاشياء المرئية ولكنه حالة طقسية محملة بدلالات جمالية ونفسية وروحية يرغب الفنان والمتذوق دائما في الولوج اليها في محاولة لتلمس ما وراء اللون‚ والمتابع لاعمال المالك سيلحظ تحولات اللون لديه ففي اعماله السابقة كان اللون مركبا ممزوجا من اكثر من لون ويحتل مساحات عرضية كبيرة على سطح اللوحة ويراعي دائما تقارب درجات الشدة الضوئية للون كي يحدث حالة من التآلف والعمق تنتج عنها حالة من الترقب والسكوت‚ اما في اعماله الحالية التي تحول فيها الى الاسلوب التعبيري الذي يعتمد على ضربات الفرشاة القوية المتلاحقة والسريعة فقد اصبح اللون ايقاعها وانفعالها يتقاطع ويتداخل في مساحات صغيرة وقصيرة ملونة بالالوان صريحة ومباشرة ومضافا اليها تنويعات خطية مركبة مما احدث نوعا من الغنائية اللونية وكأنك تسمع قرع الطبول او ايقاعات الموسيقى‚ ومن اهم تحولات اللون عند المالك ايضا في هذا المعرض هو استخدامه للون في محاولته لكشف الغطاء عن المرأة فبعد ان كانت فرشاته لا تحمل الا باللون الاسود عند الحديث عن المرأة نجدها الآن وقد تجاوزت هذا الرداء الاسود الى ما وراءه حيث ظهرت غابة من الالوان الزاهية البراقة والمشبعة بالنور والامل والرغبة في الحياة واختفى ــ تقريبا ــ الرداء الاسود من معظم اعماله فاحيانا ما تسبق الالوان مفاهيم وافكار بعض الناس عند الحديث عن المرأة‚
نساء بلا ظل
(‚‚ المرأة كوهم‚‚ اجمل منها كحقيقة‚‚)
هذا ما اكده شاعر المرأة نزار قباني ولعل هذا الوهم هو الذي دفع الفنانين والشعراء على مر العصور لتكون المرأة هي محور ابداعاتهم فالمرأة كانت دائما هي الموضوع الفني الاكثر اثارة والاكثر غموضا‚ لكن عند معظم الفنانين كان الجسد النسائي وقياساته الجمالية وايحاءاته الحسية هو المثير الجمالي لديهم اما المالك فقد تجاوز في اعماله شكل المرأة الخارجي ومفاتنها الجسدية في محاولة منه لتجاوز السطح والولوج مباشرة الى الجوهر فالمرأة لديه ليست مجرد جسد مثير وانما قيمة ابعد واعمق‚ انها بقعة ضوء وشعاع نور‚ انها الحلم والوطن والارض الطيبة التي ننتمي اليها‚ ومن يمعن النظر في نساء سلمان المالك سيلحظ انهن نساء بلا ظل‚ بلا ثقل فيزيقي لتأكيد الجانب الروحي الاثيري فيهن ويؤكد لنا انه يبحث عن المحتوى والمضمون وليس عن الشكل الخارجي وفي هذا السياق نستطيع ان نتفهم الحاح الشكل عليه في معظم الاعمال والذي اعتبره البعض نوعا من التكرار ولكنه ليس كذلك لان اشكاله ربما تتقارب لكنها لا تتكرر كما انه ليس تكرارا بقدر ما هو الحاح للشكل بغرض تثبيت المعنى‚ ان نساءه اقرب الى الخيالات والاطياف فهن بلا ملامح وبلا ظل واحيانا بلا رأس ايضا وقد وضعهن في حالة من الضبابية وسط فراغ سرمدي وفضاء ممتد حيث لا زمان ولا مكان فلا توجد ارض يقفن عليها ولا سماء تظلهن وكأنهن ليسوا شخوصا ولكن اوهام قد خرجت من ذهنه واستقرت على سطح اللوحة انه يتعامل مع المعنى والفكرة اكثر مما يتعامل مع معادلها الشكلي الظاهري‚ وقد اشار هيغل الى هذا المعنى في كتابه «علم الجمال» حينما اكد على ان الجمال هو الفكرة التي تعبر عن الوحدة المباشرة بين الذات والموضوع وهذا الجمال لا يتحقق الا في الجمال الفني لانه جمال ينبع من الروح !!

طبعا منقووووووول..
جريدة الوطن - منوعات - قطر